قضيت الليالي السالفة اتقلب على نصل سكين. حتى
أحاطت أفكاري و أفكار غيري بقشرة البيض التي تحمي دماغي، و سرعان ما وجدته غارقاً
في موجٍ هائجٍ، من الخواطر، لا يهدأ أو يصيبه شيءٌ من تقلبات القمر. فقدت الإحساس
بالمحيط الذي يغلف جسدي، و بالزمن الذي يتلفه، و بوجودي، وجود ذاتي في عالمٍ من
الألم.
على العكس من الاعتقاد السائد، لم يختفي تحت أجنحة
الظلام وقت لقائنا. كانت معاول الفجر تكسر ظلمةَ الأفق، و ينزف السواد دماً
قانياً. أوشكت الشمس على الانبلاج شرقاً، لكن وهجاً من الضياء أشد قوة و لمعاناً
يجذب أنظاري غرباً. كانت كتلة النور تلك تقترب مسرعةً حتى غمر البياض جسدي و
دماغي. تجل الضياء عن جسد شابٍ وسيم، له جناحان شاسعان من الجلد الرقيق الذي يكاد
أن يرى النور من ورائه. عرف نفسه باسم (حامل الضوء). كان الشيطان ماثلاً أمامي.
تحدث حامل الضوء عن الألمِ، و من يعرف الألم مثله؟
قضى دهوراً طويلة يعاني من حرقةٍ داخله، و ألمٍ لا يكاد أن يُنسى، حتى تذكره دموع
البشر به، و خطاياهم. أراد تعليمي كيف الحياة أبهى دون أن تنغص عليَّ ساعات
التأوهِ. كنا نتناقش و الأفلاك تحيط بنا، و ينهمر حول جسدي سيلٌ من النيازك
المضيئة التي ترتحل كالعصافير المهاجرة عبر المجرة. خطفت من خاطري كل حجةٍ أعددتها
و أنا منصتٌ لبوحه. ياللحسرة التي بداخله، طرد من الجنة، مثلي. تكدرت عينيَّ
بالدموع، كلانا سلكنا، اختياراً، سبيل الألمِ.
تعلقت في أذهان البشر صورة المسيح جاء ليخلص الناس
من العذاب. و بالمقابل صُلِبَ الرجل، و تجرع الخمرَ مراً و حنظلاً. درات الأقدار و
صديقي الجديد يشير ببنانه على صدري، طارفاً بعينيه بعيداً أهناك من يسترق السمعَ؟
ليبوح لي مبتسماً، طريق الخلاص من الألم لن يكلف أكثر من عقدٍ بسيط أقدم فيه
الشيطان داخل غلافٍ من السكر في مواضيع مدونتي. أبرمت صفقة مع الشيطان.
مصباح النهار يخترق لذيذ نومي. أكنت أحلم، أم
أصابني مسٌ من الشيطان؟ احترقت يديَّ بالماء الساخن، و لم أشكو. لم يصبني شيء من
الأسى إذ رأيت يدي تلتهب و تشوح بالأحمرِ. غرزت سكيناً في لحمي، منتظراً صوت الآه
من فمي. لم أبالي بعدها بلون الدم يصبغ ملابسي. صرت أخطو فوق النار، و كنت أعلم قُربَ
أعصاب الألم من تلك التي تدرك الحرارة، و فطنت أن صديقيَ المجنون عطل الاثنتين.
صدق حامل الضوء، حياتي أبهى دون ألم! هناك خيط رفيع
في نفوس البشر، يبحر بين شاطئي المعاناة و الحزن. عندما أوهب قلباً لا يتكدر
بفراقٍ، و يدرك حلاوة اللقاء، أرى حوريات الفرح تطوف حول قلبي و مبسمي. أمسي قليل
النوم، و أصبح حاضر البال، نافذ البصيرة. لا يزعجني لهيت الصيف، أو قارس الشتاء. تيقنت
داخلي بأن العالمين يتمنون عيشاً مثل عيشي.
مرت عقود قليلة حتى رأيت أخاديد الهرم تحفر وجهي، و
للمرة الأولى منذ سنين، جزعت أن أغرق في موجِ تقلبِ الليل و النهار. أضف بضع أعوام و إناث أنستني سكينة القلب و طمأنينة
الروح. جسدي الثمين، و روحي الأثمن تبدوان أرخص عندما لا يستوعبا عاقبة الجروح. حينها
تمنيت دمعةً تغسل ندوباً رسمت خارطة الأيام فوق جسدي. كيف استمطرُ الدمعَ من عينٍ
نسيت معنى الألم؟ و استحث الدمَ ليصبغ مكامن القصاصات، عساه يومض بذكرى في الماضي
السحيق تنبض بالأسى في شرايني.
لم أكن بحاجةٍ لطقوس، أو أضاحي، أو صلوات تستدعي الشيطان
من مكمنه. لا تفصلني عن إلفي إلا نداءٌ حتى يمثل أمامي. خذني بعيداً، قد تتناهى في
الفضاء أنفاسي. في جوار القمرِ، نستظل به من شعاع الشمس. صوت الصمتِ، طربتُ كيف تدور
الأفلاك في هدوءٍ. من يحملُ صوتي أريد أن أنقض العهدَ. لم يتعجب من طبعٍ كمين في
نفوس البشر. أدار بظهره، فجزعت قد أترك هنا إلى الأبد. أَبَدِي أنا سنين قليلة و
ينقضي بعدها أجلي. يبدو أن هناك طرقاً كثيرة للموت تألم حتى لفاقد الإحساس
بالألمِ.
في سكوتنا تحدثت الأفكار. قضيت أسبوعاً بعد لقائنا
و أنا أنقب في مكنون عقلي عن أوجع طريقة لإنهاء حياتي. أردت أن انتقم لنفسي من
الشيطان. الموت غرقاً، الموت حرقا، الموت صبراً، حتى الموت نائماً يُوجِع. ضحكتُ و
أنا أمسك النصل فوق قلبي، هنا تكمن كل الحكايا، لو توقف عن النبض، ربما تنتهي
معاناتي. أردتُ أن أحميه من الألمِ. طعنة. أتحسُ الألمَ؟ طعنةً. قلبي هنئياً لك.
لن تحس بشيءٍ أبداً. طعنة.
رائعة..
رائعة إلى درجة مخيفة